عدد الرسائل : 6792 الأوسمة : نقاط : 69300 تاريخ التسجيل : 25/04/2008
موضوع: رمضان‮ .. ‬ليس للإسراف والسفه الجمعة سبتمبر 05, 2008 5:54 am
رمضان .. ليس للإسراف والسفه
بقلم :محمد بركات يستوقفني دائما، وابدا، كلما هل علينا شهر رمضان الكريم، ذلك الخلط السييء، الذي وقعنا فيه جميعا، بين روحانيات الشهر الفضيل، والإغراق في الاسراف السفهي في الطعام والشراب،...، كما يستوقفني ايضا، ذلك الربط الظالم والمتعسف، الذي نقوم به دائما، بين لياليه المباركة، التي يجب ان نضيئها بوهج المعرفة، ونحييها بنور التفكر والتعبد، وبين ما نمارسه من الغرق الإرادي في دوامة التسلية والسهر،...، أوالاستسلام الطوعي لموجات الدراما الكاسحة علي قنوات التليفزيون. اننا نتحدث عن ذلك الخطأ الفادح الذي وقعنا فيه جميعا - بإرادتنا للأسف-، عندما ربطنا بين شهر الصوم والعبادة، والتقرب الي الله عز وجل، طلبا لراحة النفس، وهدوء القلب، وصفاء الروح،...، وبين تلك الممارسات البعيدة كل البعد عن روح وفلسفة الشهر الكريم، واهدافه السامية. وفداحة هذا الخطأ الذي شاع واستشري بيننا جميعا دون استثناء، ودون تفرقة بين عموم القوم وخاصتهم، وعلي اختلاف اطيافهم الثقافية والفكرية. وتفاوت مستوياتهم المادية والاجتماعية، يكمن في كونه تحول في نظرنا جميعا للأسف، من السلوك الخاطيء والفعل المذموم، ليصبح عادة مقبولة، وسلوكا محمودا، وغاية منشودة، وفعلا مقلدا ومرغوبا. ثم تطور الامر الي ما هو اكثر فداحة من ذلك، وأسوأ بكثير، حيث تمكن منا ذلك الخلط، وهذا الخطأ، بحيث اصبح عرفا، وسلوكا ومنهجا مجتمعيا معمولا به من الجميع ، وملزما للكل دونما نقاش، ودونما مراجعة، ودونما نقض، أو إبرام. وإذا بنا والقادرون منا بالذات في سباق محموم نحو الاسراف السفهي في الطعام والشراب في شهر رمضان، بالاضافة الي التنافس علي الاستغراق التام في البحث عن وسائل للسهر والتسلية واضاعة الوقت فيما لا يفيد، ولا ينفع،...، وكأن رمضان الكريم، اصبح شهرا للأكل والتخمة، والتكاسل والسهر وقلة العمل، بدلا من ان يكون شهرا للتراحم، والتكافل، وفرصة ربانية لنشر المحبة والمودة بين البشر، وزيادة الترابط والتلاحم بين فئات المجتمع. واحسب ان الوقت قد حان الان كي نشرع بكل الجدية، وكل الاصرار، في التخلص من ذلك الخلط المعيب، والتطهر من ذلك الخطأ الفادح، وان نعود بالشهر الكريم الي طبيعته السمحة، وروحه السامية.
***
ولعلي لا أبالغ إذا ما قلت إننا يجب أن نحسن استغلال الشهر الكريم الذي نتنسم روحانياته الآن، كي نشرع في تعديل السلوكيات والأنماط الاستهلاكية للأسرة المصرية، التي اعتدنا عليها رغم خطئها، وان نبدأ ومن الآن في وضع نهاية سريعة وحاسمة لحالة الخلط السييء التي قمنا بها بين رمضان والنهم في التهام الطعام، وحالة الصرع التي تنتاب الكثيرين منا، ان لم يكن أغلبنا وتدفعنا بإرادتنا أو رغما عنا للبذخ الممقوت والمكروه في شراء المواد الغذائية، والإسراف المفرط في الانفاق علي هذه الأشياء، الذي أصبح عادة ذميمة لدي القادرين منا،...، وكذلك أيضا لدي غير القادرين ان وجدوا إلي ذلك سبيلا. وأعتقد ان الحالة العامة من الغلاء التي يواجهها العالم الآن، ونواجهها معه، باعتبارنا جزءا لا ينفصل عنه، والتي أصبحت فيها أسعار المواد الغذائية فوق كل تصور وأعلي مما تخيله البعض في يوم من الأيام، تحتم علينا أن نبدأ ومن الآن في الترشيد الواضح والجدي لموجة الاسراف السفهي والانفاق المنفلت، ويجب أن نضع في اعتبارنا الوصول إلي الاقتناع الكامل بضرورة الاعتياد علي أنماط مختلفة للسلوك الاستهلاكي المرشد في كل الأسر،...،الغني منها وغير الغني،.....، القادر منها وغير القادر،.....، وان ندرك أن تلك ضرورة لابد منها. وأحسب ان للمرأة المصرية دورا رائدا وضروريا في هذا المجال، بل ان عليها كل الدور، باعتبارها هي وزير الاقتصاد الحقيقي داخل كل بيت، وفي كل أسرة، وانها هي المدير الحقيقي المسئول عن تدبير احتياجات الأسرة والمحفز علي الاستهلاك البذخي، أو الاستهلاك المرشد. ولعلي لا أبالغ أيضا اذا قلت ان حديث كل أسرة، وشاغلها الأول والأخير في كل بيت مصري، الآن، هو قضية ارتفاع الأسعار، وزيادة الغلاء، بصفة عامة، وأسعار السلع الغذائية بصفة خاصة. *** وأحسب انه من الضروري ان نعرف الآن، وبوضوح ان مصر دولة نامية، وأننا نستورد أغلب ما نستهلكه من الخارج حتي الآن، وان انتاجنا من المواد الغذائية مثل القمح واللحوم وغيرها لا يفي بالاحتياجات، وان السيطرة علي أسعار المواد الغذائية أصبحت صعبة في ظل جنون الأسعار الذي انتاب السوق العالمية، وهو ما يفرض علينا بالضرورة ان نسلك طريقين لا ثالث لهما. الأول هو زيادة الانتاج علي قدر ما نستطيع، وهو ما يتطلب زيادة الرقعة الزراعية، واستصلاح المزيد من الأراضي، وإضافة ملايين الأفدنة المزروعة كل عام، حتي نستطيع الوفاء بما نحتاجه من القمح والذرة والأرز وغيرها من المنتجات.. وفي ذلك لابد أن ندرك انه ليس سهلا ولا متاحا دون تكلفة عالية جدا، لأسباب رئيسية قد تغيب عن بعضنا. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب عدم كفاية نصيب مصر من المياه لري هذه الأراضي، لو تم استصلاحها، حيث يقدر الخبراء مساحة الأراضي التي نحتاجها للوفاء بما نستهلكه من غذاء بنصف مساحة الأراضي المزروعة حاليا أي أننا نحتاج إلي خمسة ملايين فدان اضافية مزروعة ومثمرة حتي نتحول إلي دولة لديها اكتفاء ذاتي من المواد الغذائية وخاصة الحبوب مثل القمح والذرة والفول والأرز وغيرها بالاضافة إلي المحاصيل الزيتية، والمراعي اللازمة للانتاج الحيواني، وانتاج اللحوم والألبان.. ونقول بوضوح انه لو توافرت الأرض، وهي بالفعل متوافرة، فإن هناك ندرة في المياه تقف عقبة دون زراعتها في ظل حصة مصر الحالية من المياه، وحتي لا تكون الصورة قاتمة، وحتي تكون هناك بارقة أمل لابد من وجودها -وهي موجودة فعلا- فيجب ان نقول ان هناك دراسات ومحاولات مصرية جادة تبذل الآن لزيادة الرقعة الزراعية بالفعل في الصحراء الغربية، وعلي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وفي الساحل الشمالي، مع تدبير المياه اللازمة سواء كانت بوسائل الري الحديثة، التي توفر قدرا كبيرا من المياه، أو بالاستعانة بالخزان الجوفي المتجدد من المياه، وكذلك أيضا باستخدام مياه الأمطار المتساقطة بنسب معقولة في هذه المناطق. كما نقول أيضا ان هناك محاولات جادة للتوسع في عملية إنشاء المجمعات الزراعية الصناعية المتكاملة، أي التوسع في الصناعات الغذائية، وإقامة مشروعات كبيرة ومتطورة في هذا المجال، وهو ما يمكن ان يساعد كثيرا في زيادة التصدير، والوفاء بحاجة السوق المحلية، وهو ما يمكن ان يحد من الاستيراد، ويتيح لنا السيطرة النسبية علي الارتفاع العشوائي في الأسعار للمواد الغذائية بالذات.
*** أما الطريق الثاني، والذي لابد ان نسلكه بالضرورة أيضا الآن وبالتوازي مع الطريق أو المسار الأول فهو ترشيد الاستهلاك، وتعديل انماط وطرق سلوك وتعامل الأسرة المصرية مع قضية الغذاء بحيث تضع في اعتبارها الاعتدال والوسطية قبل أي شيء آخر، وتضع في اعتبارها أيضا ان البذخ والإسراف فعل خاطيء وسلوك غير مقبول، وتضع في اعتبارها كذلك ان المقدرة المالية لا يجب ان يرافقها سوء التصرف وسفاهة الاستهلاك، بل يجب ان يتلازم معها حكمة الاعتدال وعقلانية التصرف والاستهلاك المرشد. وفي هذا الخصوص لابد ان نسعي بكل الجدية لتعزيز وعي المجتمع المصري، والاسرة المصرية بالذات، والمرأة المصرية علي وجه الخصوص بجميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي تتعرض لها مصر في ظل الارتفاع الحاد في الاسعار وارتفاع أسعار المواد الغذائية بالذات، بل وندرة هذه المواد في السوق العالمي، الذي أصبح بالفعل خطرا يمكن ان يتحقق، بل أصبح بالفعل موجودا ويهدد دولا وشعوبا كثيرة. وفي قضية ترشيد الاستهلاك، يجب ان نعرف اننا لو رشدنا الاستهلاك في المواد الغذائية وغيرها، فإن ذلك يعني اننا سنقلل من حاجتنا للسلع ولو بنسبة خمسة أو عشرة في المائة في البداية، وهذا يعني في ذات الوقت توفير السلع الموجودة في السوق بنفس النسبة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلي انخفاض الأسعار بنفس النسبة. ويجب ان يكون واضحا اننا نحتاج إلي الإرادة القوية، والتصميم الجاد، والعمل المستمر والمتواصل، في إطار خطة واضحة ومدروسة للسير علي الطريقين معا، طريق زيادة الانتاج، وطريق ترشيد الاستهلاك، حتي نحقق ما نريد. وفي هذا المجال، دعونا نقول بصراحة ودون تردد ان هناك تحية واجبة وصادقة يجب ان نعلنها بوضوح للسيدة سوزان مبارك. التي تبذل جهدا كبيرا في هذا المجال، والتي قادت وتقود حملات جادة ومسئولة للدعوة للاعتدال وعدم الاسراف، وخلق وعي مجتمعي متكامل بهذه القضية، وترسيخها في وجدان المرأة المصرية، حتي تصبح منهجا للسلوك داخل كل أسرة.
***
ولا اعرف علي وجه الدقة، مدي صحة المرجعية التاريخية لسيطرة هذا الخلط، المتعمد، وغير المتعمد، علي حياة المصريين بصفة خاصة، والعرب بصفة عامة، والذي اصبح شائعا ومنتشرا، وكأنه جزء من مناسك وطقوس رمضان،...، وان كان البعض يرجعه تاريخيا الي سلاطين وولاة الدولة الفاطمية، عندما حطوا رحالهم في مصر، قادمين من المغرب العربي، في فورة حماستهم للقضاء علي العباسيين، وإقامة دولتهم الجديدة، حاملين معهم الاصرار علي نشر مذهبهم ، وتحقيق غايتهم ،وجالبين برفقتهم في ذات الوقت، اسرار المطبخ المغربي، بما فيه من اطايب الطعام، وفنون الطهي والتذوق. وهناك من يعود بتاريخ هذا الخلط الي ما قبل ذلك بكثير، ويرجع به الي فترة تمدد، واتساع، وازدهار الدولة الأموية، التي كانت تأخذ من الشام مستقرا لها، ومركزا لعاصمة الخلافة، ثم توسعت وامتدت الي جميع ارجاء بلاد المسلمين، ومصر من بينها، ونقلت اليها ضمن ما نقلت، صنوف الطعام، وما لذ وطاب من الحلوي الشامية، وقمر الدين وغيرهما. وسواء كنا قد وقعنا في هذا الخطأ الشائع، منذ ايام الفاطميين، أو ورثناه عن الأمويين، أو ورد الينا من العراق في نهايات الدولة العباسية، وما اشتهرت به تلك الفترة من سهرات انس وفرفشة، وغناء وطرب، وبذخ في الطعام والشراب، واسراف وسفه في كل شيء، فإن ذلك لا يغير من الامر شيئا، ولا يبدل الخطأ ليصبح صوابا. ويتساوي في ذلك ايضا، اذا صحت مقولة البعض في ان هذا الخلط السييء، وذلك الخطأ الفادح، نزح الينا سواء في مصر أو غيرها من البلاد العربية والاسلامية، من الأندلس، ضمن ما نزح من عادات وتقاليد لأهالي وسكان هذه الأمصار، وتلك المدائن في فترة افول نجم المسلمين بها، وانحسار الاسلام عنها، ثم غيابه بعد تفكك وتحلل الدولة الاسلامية بها. ولا يقلل من مساويء الخلط، وذلك الخطأ علي الاطلاق، ما يقوله البعض الآخر، من ان تلك العادات القبيحة في الاسراف السفهي، في الطعام والشراب، أو في السهر والبحث عن التسلية، في رمضان، قد زرعت في مصر، وانتشرت في ربوعها في فترة حكم المماليك، وانها ترسخت وتعمقت خلال سيطرة الدولة العثمانية.
***
ونحن لا يهمنا في قليل أو كثير ذلك الاسناد التاريخي للخلط الذي وقعنا فيه، قدر ما يهمنا الخطأ الذي ارتكبناه ونرتكبه في حق شهر الصوم، الذي يقوم في فلسفته وأهدافه، علي معاني السمو الروحي، والارتقاء بالمشاعر الانسانية، الي أرفع درجات التعاطف الوجداني مع الضعفاء، والاحساس بالفقراء، ومن لا يملكون القوة علي ايجاد ما يسد رمقهم، أو يقيم أودهم،...، والوصول بهذا السمو، وذلك الرقي الي مستوي الشفافية الروحية، والوعي العقلي، والايمان الكامل، بأننا جميعا فقراء الي الله سبحانه وتعالي،...، وان الله يرزقنا، ليس من اجلنا فقط، بل ومن أجل من نشملهم بالرعاية، والود،...، ومن نكفلهم بالإحسان والرعاية ايضا.
***
يا سادة رمضان ليس للأكل، والشرب، والتخمة، والكسل، والسهر، والغرق في طوفان المسلسلات،...، بل هو للتراحم والتكافل والتقرب من الله بالعمل الجاد لما ينفعنا في الدنيا والآخرة. أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله. منقول من