حديث رمضان
الكاتب : سماحة العلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله )
محاضرة لسماحة العلامة الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ( رحمه الله ) أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية و نشرت في جريدة التلغراف في شهر رمضان المبارك الموافق لسنة 1952 م ، و هي منشورة ضمن مجموعة من مقالات سماحته في كتابه " الشيعة في الميزان " .
حَديثُ رَمضَان
لقد غيَّر العلم فَهْمَ الإنسان لحقيقة الحياة ، و قضى على كثير من التقاليد و المعتقدات ، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم ، و الأحلام مقام الملموس و المنظور ، و فسَّر الطبيعة و حوادثها بأشياء لا تَمُت إليها بسبب . فسر المرض بلمس الجن ، فعالجه بالرقى و التعاويذ ، و نَسَبَ الفقر إلى القَدَر ، فأوجب الاستسلام له و الانقياد ، و أسند سلطة الحاكم إلى اللّه ، فأمر الناس بالسمع له و الطاعة . هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم ، و قاومها العلم ، و دعمها الإقطاع ، و كذبها الوعي ، و دللها الاستعمار و خنقها التطور .
أما الدين الذي يحارب الخرافات و الأوهام ، و يدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها ، و يتصل بحياة الإنسان مباشرة ، و يهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسه و يشعر به كل فرد فانه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرَين ، و هل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم ، و حدّه العدالة و المساواة ، و هدفه سعادة الإنسانية و رفاهيتها ؟ إن مثل هذا الدين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى ، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم و الحضارة في ذلك العهد ، و هذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدين و سماته ، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية ، و تلك بالحضارة المسيحية ، و ثالثة بالحضارة البوذية ، و لو كان العلم يعاند الدين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر ، و للكنائس و رجالها في أميركا و أوروبا عين و لا أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور .
يتبين من هذا أن العلم لا يعاند اللاهوت ، و أن عدو اللاهوت هو اللاهوتي الذي يفسر الطبيعة بالخيال و الوهم ، و يتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة ، و لو كذبتها التجربة و العيان ، و يحاول إِقناع الناس بأن دينه خير الأديان ، و أن طائفته تسعد غداً في جنات النعيم ، و سائر الطوائف تشقى بنار الجحيم .
ليست مهمة رجل الدين أن ينظر إلى السماء وحدها ، و يغض الطرف عن الأرض التي يعيش فيها ، أو ينظر إليها من خلال نفسه و جامعه و كنيسته ، فيبشر بدينه ، و يهاجم سائر الأديان ، و يتعصب لطائفة ضد الطوائف الأخرى ، و إنما واجب رجل الدين أولاً و قبل كل شيء أن يتخذ من كل ما عليه مسحة دينية من عمل يؤدى في معبد ، أو قول في كتاب مقدس ، أو دعاء يكرر في الصلوات و أيام الصيام أداة توجيه و إِرشاده إلى تعاون جميع الطوائف الذين يجمعهم وطن واحد ، و آمال واحدة ، و أهداف مشتركة ، إلى تعاون الجميع على تحقيق هذه الآمال و الأهداف ، و هدم الفروق و الحواجز التي تحول بينها و بينهم ، أن يعملوا يداً واحدة على حل ما يعانونه من مشكلات لا يصح الإغضاء عنها ، و لا التقصير فيها . إِن الشعب الذي لا يتعاون ابناؤه على ازدهاره و رفع مستواه المادي و الروحي لا دين له و لا إيمان .
ليس الدين ذلاً و لا انكساراً و زهداً في الحياة و ملذاتها ، و لا صلاة و صياماً يذوب له الصائمون ، إن الصلاة رمز إلى إيمان المصلي ، إيمانه بحق الإنسان و خالقه ، و تعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية و الرخاء للجميع ، و انه يتقبل هذا النظام ، و يحافظ عليه ، و يخضع له بمحض إرادته و اختياره . فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي ، و يتورع عن كل ما فيه ضرر لنفسه و لغيره ، و يأتمر و يفعل كل ما فيه الخير و الصلاح له و للمجتمع ، و بهذا نجد تفسير الآية الكريمة " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر " .
أما الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " و ليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين ، فيحسن إليهم . و يتصدق عليهم بالقرش و الرغيف - كما قيل – و لو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء ، و لكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم ، و يستعبدهم ليتذكروا المظلوم ، و ينتصروا له من الظالم .
إن قول اللّه سبحانه : " كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون " إشارة إلى أن الحكمة من وجوب الصوم ، و امتناع الإنسان عن طعامه و شرابه – و هما في بيته و متناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس و استثمارهم ، و التعدي على طعامهم و شرابهم . أن يدرك عملاً لا قولاً ان إطلاق العنان لأنانيته و أهوائه يجعل أقوات الناس و مقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار و اللعب بالأسواق ، و بمهارته في فن الغش و التدليس و في ذلك خطر كبير عليه و على المجتمع . أن يدرك أن حرية الفرد و استقلاله و مصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع و استقلاله و مصالحه . أن الحر فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يَسْتَغِل و لا يُسْتَغَل ، لا يَستَعبِد ولا يُستَعبَد . و بالتالي أن يُهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته ، و كبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح و الازدهار .
إن الدين أمر بالصوم تحدياً للجوع و العطش ، لا رغبة في الجوع و العطش ، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع و العطش ، و تعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد ، و لا ينتهي إلى حد . قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه و آله ) : " الصائم من يذر شهوته و طعامه و شرابه لأجل اللّه سبحانه " ، و قال : " كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و العطش " . أجل ، لأن صيامه لم يَحُد من طمعه ، ولم يَرقَ به إلى احترام الحياة ، و الإيمان بحقوق الإنسان . و جاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك : " اللهم ارزقني الجد و الاجتهاد ، و القوة و النشاط لما تحب و ترضى ... و الوجل منك ، و الرجاء لك و التوكل عليك ، و الثقة بك ، و الورع عن محارمك ، إن الخوف من اللّه سبحانه ، و الورع عن محارمه ، و النشاط لما يرضيه ، كل ذلك ، إنما يكون بالتحرر من عبودية الهوى ، و حب السيطرة و الاستئثار ، و البعد عن الكسل و الخمول ، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير ، و رغيف البائس ، و لا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار ، و من ملهى إلى حانة ، إن اللّه لا يحب و لا يرضى عن مجتمع لا يجد و يجتهد ، و لا يكافح و يناضل في سبيل حياة أرقى و أبقى ، و لو ملأ الشوارع بالكنائس و الجوامع ، و الفضاء بالأجراس و الأذان ، إن المجتمع الذي يحبه اللّه و رسوله ، و يحب اللّه و رسوله هو الذي لا ترى فيه إِلا عاملاً في مصنع ، أو زارعاً في حقل ، أو راعياً على منحدر جبل ، أو سماكاً يجذب شباكه ، أو فناناً يرسم على لوحة ، أو طبيباً في عيادة ، أو عالماً في مختبر ، أو أديباً ينقد الأوضاع .
إن مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدين و الصلاة و الصيام .