[ .. عَبَثيّــةُ المَــوت .. ]
يحبـو الصغير قُربَهـآ ، وَ يلتَصِقُ بِـ قَدَميهآ ، يَقبِضُ على سآقِهآ بِـ كَفيِّـهِ الصَغيرَتَين ، يستجمِعُ قُوآهُ الضعيفَــة ثُـمَّ يتسلَّـقُ بــ بُطئٍ وَ يَقِـفُ مُتكئـاً على حجرهـآ.
يَفرَحُ بـ أبسَطِ خُطوآتِـه الى الحيآة ، بــ اقترآبِهِ انجازاً مِنَ العُمرِ .. يترُكُ سآقهـآ وَ يَضُّـمُ يَديـهِ مُصفقّـاً فَرِحاً .. يتنآسى ضِعفَ خبرتـه ، وَ قلّةَ حيلـةَ اتزآنِهِ . يَقَـــع .. فــ تستقبِلُهُ ذراعآهآ ، وَ تضمّـهُ بـ ضحكَةٍ آسِـرَةٍ ، وَ قُبلَــةٍ عَذبَـة .
تُسِـرُّ اليهِ عِشقهآ وَ حُبّهـآ ، تُهدهِـدُهُ وَ تهمِسُ لـ ملآئكَةِ السمآءِ أن احفظيـهِ لي .. تُلقي بـهِ الى عَلٍ ، وَ تُمسِكُ بـهِ من جَـديد فَـينفَجِرُ ضآحِكاً ، مُمَرِّراً أصآبِعَـهُ على تفآصِيلِ وجههـآ .. تُلقي بهِ مرّةً أخرى وَ صدى الطفولَةِ لآ زآلَ يتَرددُ في حُجُرآتِ قَلبِهآ .. لكــــن ، تَلتَقِطُهُ هـذِهِ المرّة غَيمَـةٌ طآرِئة ، وَ تبتعِدُ بـهِ صَوبَ الضَيـآع .
تَصرُخ ، تُنآديِـه .. ثُمّ تَجري خلفَـه ، تَرفَعُ يَدهآ وَ تزيدُ في نِدآئِهآ .. تَرجو الغيمَـةَ أن تَهبِطَ قليلاً ، تَرجو السمآءَ أن تقَـعَ للحظــة .. !
نخَزآتُ العُمرِ تَجتَمِعُ في بآطِنِ قَدَميهآ .. تَعلَقُ طُفُولَتُها المُرّةُ حيناً ، وَ يُتمُ سَعآدَتِهآ حيناً آخر .. تَصرُخُ مُتألّمَـةً وَ تلهَـثُ صَمتَهآ ، ثُمَّ تَزفرُ بِـ حَرآرَةٍ كُلَّ مآضيهـآ .. تَصيرُ التَفآصِيلُ زَبَـداً وَ هَباءً لآ وُجُودَ لَـه .. الغَيمَـةُ تَبتَعِـد مُستَردّةً المآضيَ وَ الحآضرَ وَ شيئاً منَ المُستَقبَل .
تَختَفي هِيَ في قَلبِ البَحر ، يَبتَلِعُهآ .. تُحآوِلُ أن تهرُبَ بـ آخِرِ أنفآسِهـآ ، تُحآوِلُ استرآقَ الهوآء .. يَتَسـآرَعُ نَبضُهآ وَ يبدَأُ جَسَدهـآ بــ الانتفآضِ شيئاً فَـ شيئاً .. لآ تَطفـو ، بَل تَهبِطُ أعمقَ فـ أعمَق .. تُمسِـكُ الغيمَـةَ لـ ثوآنٍ قبلَ أن تُفلِتَ منهآ مرّةً أُخرَى ، ثُــمَ تَصحـــو.
تَسعُلُ بــ خَوفٍ عآرم ، تَتَحَـسَسُ قَلبَهآ ، تُقرِّبُ يَدَهآ الى فَمِهآ وَ تستَشعِرُ حَرآرَةَ وَ ارتجآفً الهَوآءِ حولَهآ .. تَطمَئنُ قَليـلاً ، تُمَـرِّرُ لسآنهآ على زَوايآ فَمِهـآ وَ تزدَرِدُ ريقهآ ، تَشعُرُ بـ الخوفِ مُجدداً .. كُلُّ أحآسيسهـآ تُوحي بـ الملوحَةِ ، بِـ الغَرَق ..!
" هكـذآ يبدو المَوتُ اذاً "أخذَت تُفَكِّـرُ وَ هي تتفحّصُ ملآمِحهآ المُتعبَـةِ أمآم المرآة " صَعُبُ المرآس ، يجيءُ على هيئَـةِ موجَةٍ أو غيمَـة ، كليهِمآ ينتهيآنِ في عُمقِ مُحيـطٍ مَجهولِ الملآمِح .. اللعنـــة ، كدتُ هذه المرة ألتقيـهِ وجهاً لـ وجه . كنتُ ســأخبره كم من مَرَّةٍ قآرعتُهُ وَ انتَصرت ، فلمّـا فَشِلَ قآرعَ أحبّائي وَ انتصَر .. كُنتُ ســأعآتِبُهُ لأنه بآغتني وَ خدَعَني وَ انتظَرَ طويلاً مُستجمِعاً هَديره قبل أن يجيءَ كـ الطوفآنِ تآركاً بحآريَ مهجورَةَ الشطآن ..! " .
شخصـت بـ ذآكرتها مستذكرَةً آخرَ شيءٍ كآن ، لَم تُسعفهآ أيُّ اجآبَـةٍ ..حآلَـةٌ من الفوضَـى كآنت تُعششُ في نفسِهآ وَ تُذكي فيهآ لهيباً لا ينطفئ ثمَ تغمِسُ بِهآ حِمَماً تُصليهآ ضَيآعاً تَترُكِ في جَسَـدِهآ خَدَراً لآ قَرآرَ له . أخذت تتهآدى في سيرهآ ، تَميلُ كَـ سآريَةِ مركِبٍ في خضمِ عآصفَةٍ ذآتَ اليمينِ وَ ذآت الشمآل .. آلامُ رأسِهآ ، وَ ثقلُ ذآكرَتِهآ ، تجآوزآ كُل حــد .
يتَرددُ صدى وآلدتهـآ بعيداً في زآويَةٍ خفيّـةٍ منهآ ، يعجُّ بــ حديثٍ كآن عآبراً ، مآراً كـ طيرٍ مُهآجِر.. ثمّ صآرَ مُقيماً كَـ وَشمٍ على جَسَـد ؛
- يمّـا حطي زعتر البلاط مع الشاي ، جاي على بالي أشم ريحة البلاد ، أذوقها ، اشتقت للبـلاد يمّـا .. اشتقت كثير .. اشتقت للدار هلأ بتكون صارت خرابة ، اشتقت للكرمة ، لشجرة الليمون و الزيتون ، للنعنعات و البصلات ، اشتقت يوم كنّا ولاد صغار نطارد ورا الحمار الأعرج و نضربه ، و بالليل لما أحطله الشعير أدخل شوي شوي خوف لا يلحقني ، اشتقت أشوف امّي بتمشّط الأرض و بتروّب اللبن و بتطعم الجاجات ، اشتقت أشوف أبوي حامل الخبزات يوم الجمعة و جايبهن من عند الخباز .. يا الله يا بنيتي ما أحلى البلاد .. قرّبت أرجعلها يا ميمتي .. ! .
" هَل يُحشَـرُ الوَطَن في كأسِ شـآي .. ! أيُّ كأسٍ عمـلآقَـةٍ تلكَ التي سوف يستوي الوَطَنُ في عُمقهآ بــ أكمَلِه .. ؟
يومهآ لم أكن أعي بَعـد أن للوطَنِ طَعـمٌ وَ رآئِحَـة .. وَ مَوتٌ أَخير . عآدت والدتي لـ البلآد ، ظَلَّ جَسَـدُها هُنآ أزورُ تُرآبَـهُ بينَ فينَـةٍ وَ أُخرَى ، أُبآرِكُـه وَ أدعو حتَى أنتَحِـب .. كَرِهُتُ كُلَّ الأوطآن ، تَأصَلَـت عُقدَةِ الحرمآنِ أكَثر ، وَ صآرَ الضيآعُ وآسِعَ المَدى ، مُتَشقق الأركآن .. ! "
مآرَست الذآكرَةُ هرولتها الى الخَلف ، بدأ كُلُّ شيءٍ يتَوهُ من جَديد ، ثُمّ تَترّتُب الأحدآث كيفمآ شآءت بتنآوبٍ مُتغيّر .. تَمآزجٌ غَريب يَصِل الضدّينِ معاً بـ عشوآئيَةٍ تَليهآ وَميضُ ثبآت .
تذكّرَت عندمآ زُوِّجَـت عُنوةً و لم تَكُن بعد تَبلُغ الخآمسَةَ عشرَ عآماً لِـ رَجُلٍ يَكبرهآ عشرينَ ألماً .. كآنت تُريدُ هُروباً ، أخذت تَجري كـدجآجَةٍ قُطعَت رأسُها ، تَدورُ حَولَ نفسهآ بآكيةً ، تشكو رغبتهآ في اكمآلِ تعليمهآ .. ظلّت المسآفَةُ تَضيـق ، ترآجعَت بـخوفٍ حَيثُ زآويَةٌ أخيرَة .. مِن خَلفِهآ حآئِطآن ، وَ من أمآمِهآ عآدآتٌ وَ ظُلمٌ مَقيتآن .
" لمــآذآ الزوآيـآ .. ؟ يُقـآلُ أنهآ الأكثرُ أماناً عندَ وُقوعِ الزلآزِل ، وَ وحدهآ تَبقى مُنتَصِبَـةً كـ تآرِيخٍ حَزين عَبرَ الخرآب .. لكن ، لم تحمني كُلُّ زوآيآ العُمر ، بل آثرَتِ الانحنآءَ عليّ وَ احتبآسي ".
فكّــرَت مليّاً " لو كُنتُ اتّخذتُ النآفِذَةَ مَهرَباً لكآنَ ذلِكَ أَفضَل ، انّ اختبآرَ شُعور الوقوفِ أمآمَ الريحِ وَ الحديثِ للهوآءِ ثُمّ التسآؤل كيفَ للأرضِ أن تقتَرِبَ بسُرعَـةٍ وَ تنقذني من حآلَةِ الجنونِ تلكَ .. كيَفَ لهآ أن تستقبِل اعيائي بــ حنآنٍ منطقيّ دون أن تُكسِّرَ أَضلُعي شوقاً وَ تقتآتَ عظآمي .. ! ذآكَ التسآؤلُ الوجدآنيّ المُتزآمِنِ مَع الفعل كَفيلٌ بـمنحي نَشوةَ النسيآنِ قليلاً .. قَدَمٌ مُعلّقَـةٌ في السمآء ، وَ أخرى مَزروعَـةٌ كـ قضيبِ حديدٍ في اسمنتٍ لم يكد يجف ، وَ الجسـدُ صآرَ كــنجمٍ وآهنٍ على شفا لحظَةٍ من الانهمآر سقوطاً ، وَ العقلُ يتَأرجَح .. أيُلقي أمرهُ ام لآ .. ؟ "
بَدَأت ذآكِرَتُها تَقتَرِبُ أكثَر ، رَأت وجوهاً شآبهآ النسيآن ، أردَتهُم مُنذُ زَمَنٍ طَيَّ اللامُبآلاة .. أحبّتهُم في يَومٍ مآ ، اقتَرَبت منهم كَثيراً ، وَ تفرَّسَـت أحلآمَهم وَ اوهآمهم .. ثُمّ فجأةً .. اختفــوا .
جَمعَت ذكرآهَم ، كَتبتَت نعوآهُم ، ثُمَ وَضَعت تَقآطُعَ مآضيهآ وَ مآضيهم في صندوقٍ علآهُ الغُبآر .. أقفَلَتِ الأخيرَ ، وَ مآ عآدت اليهِ بتاتاً ، ثُمّ فجأةً .. و الآن .. استحضَرتهم مِن جديد !
" لمآذآ تُرآهُم الآن خرَجوا عن حَيّزِ الصَمت .. و عآدوا لـيُزآحموا الأفكآر في عقلي .. لمآذآ نَبتوآ من جَـديدٍ كـ شَجَرةِ معصيِةٍ مُشتهآةٍ تُحتَضَـرُ تَعباً لآ ينتهي .. ؟ ، لمآذآ الآن تحديداً .. ؟ "
شخصت بـ فوضى أفكارها الى الأفقِ بعيداً حيثُ تنطفئ آخر النجوم و يزحف الضوء على ذاكرة الليل ..
" الموتُ لم يكن ابداً عبثياً ، بكلِّ ما فيه .. أعلمُ انه يتفرّسُ الوجوه مليّاً ، يتفحصهـآ ، و يتلمسّها ان استدعتهُ الحآجة ، ثم يبتسم أو يكفهر وجهه لهـآ قبل أن يستنطق من الروحِ آخر كلمآتهآ . العبثيّة لا تعني الموت بـ شيء ، فـ الموت حالةٌ من استعصاء الرغبة و المقاومة و الحيآة عموماً .
العبثيّـةُ تنال ممن أظلهم الموتُ بـ حزنِ الفقدان و الضياع ، هؤلاء المبعثرين كـ دوائر ماءٍ نضبت على محيطِ أسود .. العبثيّة هي عندما يعتنق الموجوع سؤالاً لـ يعقفَ علآمآتِ الاستفهآمِ وحده لاحقاً و يواجهَ بها شعوذة البدليات بنفسه دون الآخرينَ ، في عالمه المُحتَبِسِ به و المتوقّفِ فيه الزمان عن النبض بــ تناوبٍ ثابت .
الموتُ لا يعبّثُ بـ الموتى ، لكنّـهُ يَعبَثُ بـ الموجوعِ فُقدآناً .. يبدو الموتُ كــ سيّدٍ ارستقرآطيّ هزيلِ الجَسَد ، شآحِبِ الوَجهِ ، عآبس الملآمِح و حآدّ الطبآئع ، سَميكُ الشآربينِ وَ كثَ الحآجبين .. بـ صوتِهِ الأجَشِّ يأمُرُ حآشيتَهُ بـ فوقيّةٍ أن يدسّوا ذلكَ الموجوعِ بين مطرقَـةٍ وَ سندآن .. ثم يتنآوَبونَ عَلى طَرقِهِ مراراً حتّى يشجّوا أحلآمَهُ الى أجزاء متنآهيَة الصغَر ، يُسآرعُونَ الى جمعهآ وَ أخذهآ " .
انثَنَت على نَفسِهآ ، كآدت تُطلِـقُ صرخَةً لكنها كتمتهآ ليتردد الألَمُ في عُمقِهآ وحدهآ ، كآن الألَمُ شديداً .. كأن ازميلاً مِن الدآخِلِ يـنقُشُ حكآيَة تَطولُ ، ثُمّ عند النهآيـةِ خطَّ عبآرةً مفآدُهآ "من لآ يملكُ رغبَـةَ الحيآةِ .. يَدســهُ الموت " .
لآحظَـت نُوراً في السمآء ، من بَعيـدٍ شآهدَت وآلدتهآ ، طفلهآ .. وَ بقآيآ وَطن . أسرَعــت اليهم مُحآولَةً الامسآكَ بـ تلآليبِ تلكَ الغيمَـةِ الهآربة ، أخذت تَجري من جـديدٍ حتّى وَصلَت عُمقَ البَحـر .. لَـم تُفلِتِ الغيمَـةَ أبداً هذهِ المرّة .. أخذَ آلمُهآ يتلآشى ، وَ اختِنآقُهآ يَزدادُ لذّةً .. ثُـمَ دوّت قهقهـةٌ ارتجّت لهآ صَفَحآتً الذآكِرة .
لَـم تَعُد هُنآ .
منذُ هذهِ اللحظَـةِ الضبآبيّة .. انتصَرَ المَوتُ ، وَ انتصَرت هيَ .
.
.