عدد الرسائل : 6792 الأوسمة : نقاط : 69300 تاريخ التسجيل : 25/04/2008
موضوع: كن فى الدنيا كانك غريب الجمعة مايو 23, 2008 5:45 am
كن في الدنيا كأنك غريب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه.. وبعد: إعلم أخي الحبيب أن هذه الحياة الدنيا أنفاس معدودة في أماكن محدودة. وأن هذه الحياة ( بحر ) و الأنفاس ( مراكب ) تقربنا إلى الشاطئ. وأن الحياة ( سفر )، وهو إن طال العمر أو قصر لابد أنينتهي إلى المنزل والمستقر في نهاية المطاف: إما إلى جنة أبداً، أو إلى نار أبداُ. فهل من مشمّر إلى الجنة؟ أ م تريد القعود مع القاعدين؟
فحيّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم
أخي الحبيب.. لقد دق ناقوس الرحيل، وتهيأالركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد، و حملت الإبل.. وأنتم لم تزل في الرقدةالأولى بعد! أخي الحبيب.. كلنا لابد أن يركب قطارالآخرة و يسافر. فهل تريد أن ترحل كريماً، ويحسن استقابلك، وتنزل منزلاً؟ أم تريد أن تذهب مخفوراً؟وتستقبل مهاناً؟ وتلقى ملوماً مدحوراً؟ إن من أراد سفراً سأل ونقّر،وأعد له العدة وفكر، وهيّأ له الزاد وقدّر. فما بالنا نغفل عن السفر الطويل إلى الآخرة؟ إن الأيام تسير بنا وإن لمنسر، والأنفاس مراحل تقربنا إلى القبر الذي هو أول منازل الآخرة. وبعد ذلك أهوال وأهوال.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة *** وإلا فإني لا إخالك ناجياً
فماذا تراك قد أعددت لهذاالسفر الطويل الذي بدأ بالفعل منذ نزلت من بطن أمك؟
أيام عمرك تذهب *** وجميع سعيك يَكتب
ثم الدليل عليك منك *** فأين أين المهرب؟
فالبدار البدار.. فلا يوجد ثم طريق للهرب أو الفرار. عن أبي هريرةقال: قال رسول الله: { بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا}. فبادر يا أخي بالأعمال الصالحة في زمن المهلة قبل أن تفلت من يدك الفرصة. قال: { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه،وعن علمه ماذا عمل فيه}. وقال:{ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحةوالفراغ}. فالفراغ نعمة عظيمة لمن شغلهابطاعة الله تعالى. فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك هي بالباطل.
لقد هاج الفراغ عليك شغلاً *** وأسباب البلاء من الفراغ
يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً سني عمره، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرينألف يوم وخمسمائة يوم. فصرخ صرخة، و خرّ مغشياًعليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟! يقول هذا لو كان يقترف ذنباًواحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟ ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي،وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:
منازل دنياك شيّدتها *** وخرّبت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخرا *** ب وترغب في دارك العامرة
وفي الحديث: { اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك،وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك}. واعلم أخي الحبيب أن لكم وضعين تندم عندهما حيث لا ينفع الندم: الأول: عندالاحتضار؛حيث تريد مهلة من الزمن لتصلح ما أفسدت، وتتدارك ما ضيعت، ولكن هيهات. الثاني: عندالحساب؛حيث تُوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي، و لم يزد فيه عملي ). وقال سعيد بن جبير: ( إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة ). أخيالحبيب.. إن الليل و النهار رأس ما ل المؤمن؛ ربحها الجنة، وخسرانها النار. والسنة شجرة: الشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرةطيبة، ومن كانت أنفاسه في في معصية؛ فثمرته حنظل والعياذ بالله. قال الحسن: ( من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعينه؛ خذلاناً من الله عز وجل ). و قال أبو حازم: ( إن بضاعةالآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق، فلا يُوصل منها إلى قليل ولا كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيهامن العمل، فلا تنفعه الأمنية ). يا هذا..الليل و النهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم. فإن استطعت أن تقدم فيكل مرحلة زاداً لما بين يديها، فافعل. فإن انقطاع السفر عن قريب ماهو، والأمر أعجل من ذلك. فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك.
إنما الدنيا إلى الجنةوالنار طريق *** والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
قال الحسن رحمه الله: ( مامرّ يوم على ابن آدم إلا قال له: ابن آدم، إني يوم جديد، و على عملك شهيد، وإذاذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدّم ما شئت تجده بين يديك، وأخّر ما شئت فلن يعود أبداُإليك ).
تؤمل في الدنيا طويلاً ولاتدري *** إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غيرعلة *** وكم من مريض عاش دهراً إلى دهر
وقال أبو نصر آبادي: ( مراعاةالأوقات من علامات التيقظ ). وقال مورق العجلي: ( يا ابنآدم.. تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن وتطلب ما يطغيك وعندكما يكفيك ). وقال الحسن: ( لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال. هيهات، قد صبّحا نوحاً وعاداًوثموداً وقروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قد أقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم. وأصبح الليل والنهار غَضّين جديدين لم يبلهما ما مرّا به، مستعدين لما بقي بمثل ماأصاب به من مضى ). لقد كان السلف الصالح مشغولين دائماً بالآخرة، منتبهين لقيمة الوقت. قال ابن مهدي: ( كنا مع سفيانالثوري جلوساً بمكة، فوثب و قال: النهار يعمل عمله ). وقال علي ابن أبي طالب رضيالله عنه: ( إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهمابنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب،وغداً حساب ولا عمل ). أخيالحبيب.. ينبغي أن تذكر نفسك دائماًبهذا السؤال: لماذا خُلقنا؟ ويجيب رب العزة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]. ثم تأمل قول أبي الدرداء رضيالله عنه: ( لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً: الظمأ لله بالهواجر، والسجودلله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطياب الكلام كما يُنتقى أطياب الثمر ). وانظر أخي الكريم إلى وصيةالنبي التي حكاها ابن عمر رضي الله عنهما: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ). قال عمر بن عبدالعزيز رحمهالله: ( إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن. فأحسنوا ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ).
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولابد من زاد لكل مسافر
ولابد للإنسان من حمل عدة *** ولا سيما إن خاف صولة قاهر
قال الحسن: ( ابن آدم، إنكبين مطيتين يوضعانك: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة. فمن أعظم خطراً منك؟ ). ياهذا، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك. وإنما أنت أيام معدودة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب *** وأن غداً للناظرين قريب
سأل الفضيل رجلاً: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. فقال: فأنت ننذ ستين سنة تسير إلى ربك، ويوشك أن تبلغ. فقالالرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن عجب الأيام أنك جالس *** على الأرض في الدنيا وأنت تسير
فسيّرك يا هذا كسيرسفينة *** بقوم جلوس والقلوع تطير
وقال داود الطائي: ( يا ابنآدم، فرحت ببلوغ أجلك، وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك. وسوّفت بعملك، كأن منفعتهلغيرك! ).
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران في العمل
أخي الحبيب.. إنما الزمان أشرف شيء؛ فلاتضيعه في البطالة. احرص على الطاعات، واغتنم الأوقات قبل الفوات.
اغتنم ركعتين زلفى إلىالله *** إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا هممت بالقول في الباطل *** فاجعل مكانه تسبيحاً
قال الحسن: ( لقد أدركت أقواماً كان أحدهم أشح بعمره من أحدكم بدرهمه ).
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يُضيّع
يحكى أن أبا موسى الأشعري اجتهد قبل موته، فقيل له: لو رفقت بنفسك؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها. والذي بقي من أجلي أقل من ذلك.
وماالمرء إلا راكب ظهرعمره *** على سفر يطويه باليوم والشهر
يبيت ويضحى كل يوم وليلة *** بعيداً عنالدنيا قريباً من القبر ياهذا.. أمس أجل، واليوم عمل،وغداً أمل. فلا يلهينك الأمل عن العمل. كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ( ويحكي ان يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون علىأنفسكم باقي حياتكم؟ ). ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهن قلائل قال ابن مسعود رضي رضي اللهعنه: ( إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتيبغتة. فمن يزرع خير فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكلزارع ما زرع ).
وأعجب من ذا أنها كالساعة *** تجدّ بنا سيراً ونحن قعود
قال يحيى بن معاذ: ( لست أبكي على نفسي إن ماتت، إنما أبكي لحاجتي إن فاتت ).
نروح ونغدو لحاجتنا *** وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجته *** وتبقى له حاجة ما بقي
أخي الحبيب.. هل آن الأوان لكي تبادر وتشمّر في جمع الغنائم الباردة قبل أن تُمنعها؟ ! قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: ( هذه غنيمة باردة: أصلح ما بقي من عمرك؛ يغفر لك ما مضى ). ولله در القائل:
إذا كنت أعلم علماًيقيناً *** بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها *** وأجعلها في صلاح وطاعة؟
طوبى لمن سمع ووعى، وحقق ماادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وصلى الله على محمد وعلى آلهوصحبه وسلم.