المعلم الذي يبني الأمة المعلم الذي يبني أمة
من سمات المعلم الذي نريد:
ولذا كان علينا أن نتذاكر أهم السمات التي ينبغي أن تتمثل في كل معلم تريده أمتنا وخاصة في عصرنا هذا ؛ فنحن نحتاج إلى المعلم :
أولا - العملي الذي يبني بوعي ؛ لأنه لا يجعل من العلم مادة محفوظة يصبها صبا في أواني يسهل انسكاب ما بها ؛ فتصير فارغة جوفاء تنتظر كسرها ومن ثم إلقاءها هنالك بعيدا على أكوام القمامات ، أو بالأحرى دفنها في التراب !! فليس بالإخلاص وحده تبنى الأمم ، وليست النوايا الحسنة فقط هي التي تجعل للجهود ثمرة تستأهل التقدير ، و ما قد يحز في النفس أن ترى معلما لا يعي كنه مهنته ، ولايستوعب المراد من وراء مهمته ، فلا يكون سوى لسان – إن كان – من دون عقل وما الإنسان على حقيقته إلا كما قال زهير :
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ
وهذا يستوجب من المعلم أن يكون واعيا بأمور منها :
1- الغاية العظمى من وراء عمله ، وهي إرضاء الله – سبحانه وتعالى – بتنفيذ أمره واجتناب نهيه على جهة التعميم .
2- الهدف البعيد الذي نعمل له جميعا ، وهو إحياء مجد أمتنا التليد ؛ لنراها يوما ما في مقام الصدارة حيث لا يحق لغيرها التقدم بين يديها ، وما يكون ذلك إلا بأن يكون كل سبق لغيرها هو لأدنى سبق يصنعه أبناؤها تبعُ .
3- الأهداف المتوسطة : التي تتركز في :
- بناء المجتمع القوي المتماسك ، النقي المتساوق ، الذي يحكمه الخلق الفاضل ، وتدفعه الغاية السامية .
- بناء الشخصية السوية روحا وجسدا ، قلبا وعقلا ، علما وعملا .
4- الهدف القريب : الذي يتمثل في التوظيف الصحيح والتوجيه السليم لكل معلومة من شأنها العمل على نمو النبتة أو تآزر الشطآن والبراعم أو استغلاظ الجذور والسيقان .
** ينبغي للمعلم أن يتدارس بين الحين والآخر أنواع الأهداف التربوية وأهميتها وتطورها ، وأن تعمل المؤسسة التربوية على إطلاع المعلمين على أهم وأحدث الدراسات في ذلك المجال خاصة ، وأن تقيم ورش العمل الجادة حول الكيفية التي نتعامل بها مع الأهداف بين الحين والآخر ؛ لما لذلك من أهمية لا تخفى في اتضاح زوايا الرؤية وتكاملها ...
ثانيا - المخلص الطموح الذي لا نرى له شبيها إلا ذلك الفلاح الذي يسعى بنفسه وكله أمل فيما يبذر بعد أن أعد لبذرته أرضها وتربتها فهو يعرف متى يبذر ومتى يسقي وكيف يرعى ولماذا يرعى !! ثم هو لا يسمح لأحد أن يفسد عليه زرعته فيُضني نهارَه وُيسهر ليلَه إلى أن يرى منها ما يعجب المنصف الماهر من الزراع ويغيظ الحاسد المبغض من الكفار !! و نحن في غنى عن الكلام عن أهمية الإخلاص والتجرد عن السافل من حظوظ النفس و الحقير من رغائب الدنيا ، ولئن كان الإخلاص واجبا في غير التربية والتعليم ، فهي في حق المربين أوجب ؛ رجاء نجاح أعمالهم ، وسيرورة مبادئهم ، وتحقق أهدافهم وقبول جهودهم .
ولذا كان من الجميل أن يتذكر المربي قيمة إخلاصه بأن : -
- يستعد نفسيا بتذكير نفسه بقصده ونيته من وراء مهنته وفنه في أول عامه ، ومع بداية يومه ، وعند ابتداء درسه ." قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " الأنعام /163،162
- يستعين بلافتة أمامه تعلمه إن جهل ، أو تذكره إن نسي ، أوتعينه إن فتر.
- تذكّر المؤسسة التربوية المعلمين بغايتهم بين الحين والآخر ، وليس عيبا أو مما يقدح في قدرة المعلمين وإخلاصهم أن يذكرهم الغير أيا كان ، " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " الذاريات /55 ،" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " ق / 37 " ...فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " ق/ 45
ثالثا - الرباني الذي يرجو رضا ربه العظيم وحسنَ ثوابه من وراء عمله الواعي الشريف المتفق مع منهج الله - عز وجل - ومنهج استخلاف الإنسان الصالح في الأرض .. إنه الرباني الفقيهُ في دينه ، الحكيمُ في قراراته وتصرفاته ..استمع إلى قول ابن عباس – رضي الله عنهما – الذي ورد في صحيح البخاري :" كونوا ربانيين حكماء فقهاء " !! وقال أيضاً - عند تفسيره لقوله تعالى وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران 79 : " الرباني هو المعلم " رباني ؛ بإخلاصه لربه في العمل وباستحضاره رغبته في المثوبة الأخروية السامية ، وكذا بتوجيه أبنائه ورعايتهم بما يحب الله ويرضى .
رباني لأنه النموذج الذي يصنع من نفسه لأبنائه قدوة حسنة ما استطاع . قال المبرد : "الرباني الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم " وقال ابن قيم الجوزية : "لا يوصف بكونه ربانياً حتى يكون عاملاً بعلمه معلماً له " حكيم ؛ لأنه يضع كل أمر في نصابه ، يراعي العمر العقلي لأبنائه ، ويتفهم الفروق الفردية بينهم ، ويفرق ما يكون داخل الصف وما هو خارجه ، كما أنه يراعي الحد - الذي ينبغي – بين الوقار والتواضع ، وبين مدارج الرحمة ومدارك التميع وضياع الشخصية ، مميزا بين " قسا ليزدجروا " ، و " قسا لينكسروا " . فقيه ؛ درايةً بعلمه ، وإحاطةً بفنه . وكل ما سبق هو الربانية الحقة .
رابعا - المنضبط الجاد : فلا قيمة أبدا لمن يقول ولا يفعل ، وتلك إشكالية كل من يتصدى للتعليم والدعوة أومن يقبل على الدين في كل زمان ومكان وهو محل اختبار لهم - أعانهم الله عليه
- فالمعلم إن لم ينضبط ويكون جادا في عمله كيف يبث الجدية والانضباط في أبنائه عملا واقعا .والانضباط في الوقت نفسه من الوفاء المطلوب ، وأداء الأمانات الواجب . قال تعالى : " وإبراهيم الذي وفَّى " النجم / 37 ، وقال تعالى : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ... " النساء / 58 ومن هنا كان على المعلم أن :
- يصبر نفسَه على التبكير كل يوم بحيث يكون قبل أبنائه في المدرسة .
- التحضير المتقن لدرسه أولا بأول .
- الالتزام بموعد حصصه بدايةً ونهايةً - الوفاء بالدرس على خير الوجوه، دون خروج عن القصد من إسراف أو تقتير.
- القيام بالالتزامات المدرسية الأخرى دون تبرم أو تهاون ما استطاع .
خامسا- الذي يجعل من مادته وسيلةً لِبثِّ القيم الفاضلة ، مثل العزة والحرية والإيجابية والإحساس بالمسؤلية ، والعدل والصدق والوفاء ... إنه يجعل من مادته ملاطا لحائط جيل النصر الذي تنشده الأمة ... وليست مادته تلك هي كل أدواته بل سمته في حياته داخل المدرسة وخارجها مؤشر وضابط لجودة المُخرج التربوي حسب أعلى وأفضل معايير الجودة.
وليعلم أن العلم الحق ما زان النفس بكل خلقٍ جميل فاضل ، ولله دَرُّ الشافعيّ حين قال :
إن لم يزد علمُ الفتى قلبَه هدىً /// وسيرته عدلا وأخلاقه حُسنا
فبشرْهُ أن اللهَ أولاه فتنةً /// تغشّيه حرمانا وتُوسِعه حُزنا
وقضية القيم والاهتمام بها يجب أن تشغل بال المربين كثيرا من خلال المطالعة والتسجيل ، والدراسة والاختيار ، وأحسن الطرق والإجراءات والوسائل والأوقات للبث والتفعيل .
سادسا - الذي يسعى دائما لتطوير نفسه وأدواته ، صاحب الهمة العالية الذي لا يرضى أن يسبقه أحد .
ورحم الله الرافعي حين قال : ليس كالمسلم في الخلق أحدْ ليس خَلقُ اليوم بل خلقُ الأبدْ وواعجبي من رجل يرضى لنفسه أن يكون دون أضرابه همة ونشاطا وعلما وفهما !! أكان كبيرا عليه أن :
- يتابع كل جديد في مادته من خلال وسائل الإعلام المختلفة .
- يشتري من قوت يومه إصدارا يختص بمادته وآخر يختص بمهنته ( مجلة أو صحيفة ) .
- يهتم بالتدريب وإن لم يهتم به غيره .
- يهتم بتعلم فنون الحاسوب والوسائط المتطورة ، وكيفية توظيفها لصالح مادته .
- يشارك بالكتابة والمراسلة والإبداع والمناقشة في كل ما يتصل بمادته ومهنته في وسائل الإعلام وخاصة مواقع ومنتديات الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) . -يحلل ويقيم المحتويات والمقررات الدراسية قبل الدخول في معمعة التدريس بوقت كاف ٍ .
- يتواضع ويسأل غيره عن كل ما استعصي عليه معرفته أو فهمه ؛ فهذا خير من العمل بجهل أو ضعف معرفة ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " ....
هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال " (رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه ).
سابعا- الذكي المتمرس الموهوب الذي لايضيع من يديه فرصة الحصول على الككنز .
نعم الكنز ؛ فمن يدري ؟ ! فقد يكون على يديه بناء تلك الشخصية التي سيكون بها شرف استعادة مجد أمتنا الذي تاه وسط زحام حضارات أضرت أكثر مما نفعت ، أوقد يكون على يديه إزاحة تلك الطبقة الكثيفة من الأتربة التي علقت برداء الأمة الزاهر
وأذكرُ عند ذلك قول شوقي :
وما نَيْلُ المطــالبِ بالتمنّي /// ولكــنْ تؤخذُ الدنيا غِـلابا
وما اسْتعصى على قومٍ مَنالٌ /// إذا الإقدامُ كان لهم رِكــابا
فرُبَّ صغيـرِ قومٍ علّمــوه /// سما وحمى المسوَّمَةَ العِرابا
وكان لقـــومه نفعاً وفخراً /// ولو تركــوه كان أذىً وعابا
فعلِّمْ ما استطعتَ لعــلَّ جيلا /// سيأتي يُحدِثُ العَجبَ العُجابا
هل كان معلم محمد الفاتح يعلم أنه سيكون في قابل أيامه فاتح القسطنطينية العظيم ، أم كان معلم صلاح الدين الأيوبي يعلم ما خبأه الغيب لتلميذه من قيادة الجيوش وتحرير القدس الأسير ؟؟ هل كان يعلم معلمو الأفذاذ من العلماء والمخترعين والمفكرين ؛ أنهم إنما يعلمون من سينيرون ظلام الدنيا بعلمهم وفكرهم ؟؟ لقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوجه أصحابه لمعالي الأمور منذ البدايات ألا ترى كيف قال - صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – وهو غلام صغير يرعى الغنم : " إنك غلام مُعلَّم " منبها له إلى قدرة واستعداد داخلي بعيدا عن الالتفات إلى صفات أخرى في الغلام ( مثل الضعف الشديد في البنية الجسدية ) قد تُضعف الأمل في أن يكون علامة بارزة في مجتمع المستقبل .
ثامنا- الذي يكتشف القدرات ويوجه الميول والاستعدادات نحو غاية واحدة هي أسمى الغايات .
فليس المعلم إلا ذلك الرجل الذي عليه تحريك القدرات الكامنة ، واكتشاف المواهب المخبوءة ، واستثارة وتوجيه الاستعدادات البادية نحو الأهداف التي تسعى إليها أمة لها قيمها ومبادئها وأسسها ، ومن ثم نحو غاية واحدة هي إرضاء المولى العظيم عز وجل .
ولك أن ترمق مثال الصحابي عبد الله بن مسعود في الفقرة السابقة ، وكذا توجيه الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم – للفتى زيد بن ثابت - رضي الله عنه – أن يتعلم اللغات ؛ ليصبح ترجمانا للرسول - صلى الله عليه وسلم .
والمعلم الحق هو الذي ينظر إلى أبنائه على أنهم جميعا أذكياء يتمتعون بقسط من ذكاء معين بقدر ما يجعلهم نافعين في المجتمع .
ومن المؤكد أن غالب المعلمين يعرفون نظرية ( جاردنر) التي تقول بالذكاءات المتعددة التي تجعل أغلب الناس يستمتعون بنوع أو أكثر من الذكاء .
تاسعا - الذي يسير وفق خطة محكمة : لا يسير حسبما اتفَق ... جزافا ..، بل هناك خطة تحكمه ، وأهداف توجهه... ومراحل تستوقفه ، وليكن كما قال الشاعر محمد بن بشير :
قَدَّرْ لِرجْلِكَ قَبْلَ الخَطْو مَوْضِعَها َمَنْ عَلاَ زَلَقاً عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا وليت شعري كيف صرنا نتلقى دروس الغرب في التخطيط والإدارة كتلاميذ سيطرعليهم البَهْرُ مما يسمعون ؟ ؛
فكنا كما قال القائل :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماءُ فوق ظهورها محمولُ وما ذاك- في ظني - إلا من الضعف الذي انتاب الولاء أومن الخواء الذي ألمّ بل نخر في ارتباطنا بالجذور .
- العماد : وأعود لأقول إن عماد ذلك كله هو فَهمُ المعلمِ لما هو منتدب له ووعيه به ، وهمته في تنفيذ ما هو مطلوب منه ، وما هو مقبل عليه .
ورحم الله إقبالا الشاعر العظيم حيث يقول : كلُّ داءٍ في سقوط الهمة /// إنه الضَّعفُ ونقصُ الفطرة وأخيرا فتلك كانت إلماحة إلى طاقة من زهر الصفات التي لا يكون المعلم الحق إلا بها ، أرجو أن تتحقق في نفسي ، كما آمل أن أراها ماثلة تحيا بيننا لنكون بحق " خير أمة أخرجت للناس " آل عمران /110 .
__________________
ليس للحياة قيمة إلا إذا وجد فيها شيء نناضل من أجله