إنفلونزا الطيور بين الحقائق العلمية والتهويل
هل إنفلونزا الطيور مرض جديد؟
لا ! إنه مرض قديم جدا عرف بأعراضه بين الطيور والدواجن منذ 1878 ولم يعرف أن سببه هو فيروس إلا سنة 1901 ثم تم عزل فيروس الإنفلونزا نوع أ من طيور مصابة بالمرض سنة 1955 وكان يطلق عليه اسم طاعون الدجاج سابقا.
هل يعتبر من أهم الأمراض التي تصيب الطيور والدواجن؟
نعم فهو من الأمراض المهمة لكنه ليس الأهم على الإطلاق حيث ان النيوكاسل والالتهاب الشعبي المعدي والجومبورو والسالمونيللا والميكوبلازما على سبيل المثال لا الحصر تصنف كأمراض أكثر خطورة لما لها من تأثير سلبي كبير في صحة وجودة الدواجن ومنتجاتها.
إذا لماذا اكتسب مرض إنفلونزا الطيور هذه الأهمية والتركيز من قبل وسائل الإعلام؟ وهل من مبرر لهذا الضجيج الإعلامي؟
بدأ الاهتمام بالمرض يزيد منذ عام 1997 عندما ظهر المرض في هونج كونج بين الدواجن وبدأ ينتقل إلى الإنسان وأصاب 18 شخصا مات منهم 6 أشخاص كانت جميعها بسبب مخالطة الطيور المريضة والنافقة بسبب فيروس الإنفلونزا من النوع “أ H5N1”. ومنذ ذلك التاريخ بدأ المرض ينتشر إلى بلدان أخرى في دول شرق آسيا ثم إلى افريقيا مصحوبا بهذا التركيز والضجيج الإعلامي، حيث انه أصبح من العيب أن تخلو شاشات التلفزيون أو صفحات الجرائد من عنوان أو أكثر يوميا عن هذا المرض مع اختيار العناوين البراقة التي تجذب القارئ وتبث الرعب عند المستهلكين حتى من رؤية الدجاج ولو عن بعد.
إن هذا الضجيج الإعلامي يرجع إلى تصور وافتراض نظري يستند أحيانا إلى بعض الحقائق العلمية وهو أن الفيروس (قد) يتحور يوما ما ليكتسب القدرة على الانتقال بين البشر وعندئذ ستكون الكارثة الكبرى، وبذلك علينا أن نقتل كل مانملك من ثروة داجنة وعلينا أن نشرد الملايين التي تعمل في هذه الصناعة وعلينا أن نشرد التجار والعمال وغيرهم ممن يعملون في الصناعات التي تخدم هذه الصناعة بسبب هذين الحرفين القاف والدال (قد)، التي لو عملنا بها في جميع أمور حياتنا لجلس كل واحد منا في بيته ينتظر الموت، لأنه لو خرج قد يموت لأي سبب من أسباب الموت المختلفة التي لا تعد ولا تحصى “تعددت الأسباب والموت واحد ومن لم يمت بالسيف مات بغيره”. فأين إذا يقيننا بالله كمؤمنين وموحدين؟ ولماذا لانأخذ بأسباب الوقاية من المرض؟ ونتعرف على الحقائق العلمية المجردة من المصلحية والتهويل عن كيفية إنتقال المرض بين الطيور ومن الطيور إلى الإنسان ونتوكل على الله لنحافظ على هذه النعم التي أنعم الله بها علينا حيث ان الدواجن ومنتجاتها هي مصدر البروتين الحيواني الوحيد المتاح لمحدودي الدخل والفقراء.
إذا ماهي تلك الحقائق العلمية التي اشرت إليها أعلاه؟
أولا: يجب الفصل بين صناعة الدواجن على المستوى التجاري وتربية الدواجن والطيور في المنازل أو للهواية او للأغراض الأخرى لأن الأولى تعتمد بصفة أساسية على الوقاية والأمن الحيوي وتلتزم بكافة وسائل الوقاية والأمن الحيوي حيث ان هامش الربح محدود جدا في ظل المنافسة والارتفاع المطرد في تكلفة الإنتاج وثبات أو أحيانا انخفاض سعر البيع، لذلك فإن المستثمر في هذه الصناعة لايحتاج إلى توعية في هذا المجال. لكن يجب التركيز على ترشيد النوع الثاني من التربية وليس منعه أو تدميره وذلك بنشر الوعي الصحي بين المربين بعيدا عن التخويف أو التهويل وتثقيف المربين والمستهلكين بعيدا عن أي مبالغة أو تقليل من أهمية المرض.
ثانيا: مرض إنفلونزا الطيور مرض يصيب الدواجن والطيور بصفة أساسية ويجب التركيز على وقاية الثروة الداجنة منه بعيدا عن الإفراط أو التفريط كما أنه مرض مهني محدود يصيب الإنسان في حدود ضيقة جدا عند مخالطة الطيور المصابة بالمرض عن طريق استنشاق رذاذ أو مخلفات محملة بالفيروسات الضارية من النوع H5N1 المنتشر حاليا في دول شرق آسيا فقط وليس كل المعزولات من النوع H5N1 ضارية أو لها قدرة على إحداث المرض في الإنسان، ويرجع ذلك على الأغلب بسبب العلاقة الحميمة في هذه الدول بين البشر والدواجن والطيور وكذلك إلى اختلاط الدواجن والطيور خاصة في الأسواق والمنازل مع الإنسان والخنزير.
ثالثا: تعتمد قدرة فيروسات الإنفلونزا على إحداث المرض بالإنسان أو الحيوان أو الطيور على مستقبلات خاصة متخصصة في خلايا الجهاز التنفسي تختلف في الإنسان عن الطيور والحيوان، لكن الخنزير يتميز باحتوائه على النوعين من المستقبلات في خلاياه ولذلك فهو يمكن أن يصاب بفيروسات الطيور والإنسان معا وبالتالي يمثل الخنزير خطورة في أنه قد يعمل على توفير الفرصة لتحور الفيروس إلى نوع جديد له قدرة عالية على إصابة البشر وبالتالي الانتقال بين البشر. ويعتبر عدم انتشار تربية الخنزير في بلادنا العربية والإسلامية عاملاً مساعداً على منع انتشار المرض.
رابعا: فيروسات الإنفلونزا لاتنتقل للبشر عن طريق تناول أي من الدواجن أو منتجاتها طالما تم اتباع الشروط الصحية العادية التي يجب على المتعامل مع أي لحوم أو اي منتجات حيوانية مثل الغسيل الجيد وعدم وضع الأيدي أثناء الغسيل والتجهيز على الأنف أو العين وعدم خلط عصائر اللحوم أو الدواجن قبل الطهي بالمأكولات والأطعمة الطازجة التي لاتطهى بالإضافة إلى الطهي العادي فوق 70 درجة مئوية.
خامسا: فيروسات الإنفلونزا ضعيفة جدا تتأثر بالحرارة فهي تقتل عند درجة حرارة 70 درجة مئوية في ثانية واحدة ويتحمل الفيروس في مخلفات الدواجن درجة حرارة 35 درجة مئوية لمدة يوم واحد، ودرجة 25 لمدة يومين فقط أما درجة 4 درجة مئوية يعيش فترات طويلة. من هنا فإن المناطق الحارة وفصل الصيف في بلادنا يضيف حماية خاصة لبلادنا من هذا المرض. وهذا يفسر انتشار المرض في المناطق الثلجية والباردة وبقاءه فترة أطول والقدرة على الانتقال من مكان لآخر.
سادسا: فيروسات الإنفلونزا تقتل بالمطهرات العادية مثل الكلور والفينيك والديتول والأشعة فوق البنفسجية الموجودة في أشعة الشمس وغيرها وكذلك المطهرات المتداولة الأخرى.
سابعا: منذ 1997 إلى الآن على الرغم من ظهور المرض في العديد من الدول والقارات التي يقطنها المليارات من البشر والدواجن والطيور والحيوانات فإن الإصابات حتى في الطيور لم تصل إلى المرحلة الوبائية كما أن عدد حالات التعرض للإصابة في البشر لم تتجاوز المائتي حالة والوفيات لم تصل إلى المائة وهذه الأعداد المتواضعة لاتتناسب على الإطلاق مع هذا الهلع، خاصة إذا علمنا أن إنفلونزا البشر العادية التي تتحور وتتغير سنويا أيضا تؤدي إلى وفاة أكثر من 60 ألف شخص سنويا في أمريكا وحدها علاوة على الأمثلة الأخرى مثل الإيدز والسالمونيللا وحوادث السيارات والحروب والإرهاب والأوبئة الأخرى ناهيك عن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل وغيرها.
ثامنا: إذا علمنا أن المرض لاينتقل للبشر إلا عن طرق المخالطة المباشرة والحميمة مع الطيور أو الدواجن المريضة ونحن نعلم أن هناك الملايين من البشر يعملون في تربية الطيور والدواجن ومنهم من يقضي الساعات يوميا داخل حظائر الدواجن حتى في الدول التي ظهر فيها المرض. أين إذن المرضى والوفيات بين هؤلاء البشر كي يقنع الإنسان نفسه بعدم تناول مصدر بروتين أساسي كالدواجن والبيض على الرغم من تأكيد الخبراء والمتخصصين وجميع الشواهد التي يدركها كل منصف لنفسه أن المرض لاينتقل على الإطلاق عن طريق أكل الدواجن والبيض المطبوخ ولايوجد أصلا من يأكلها غير مطبوخة.
تاسعا: نرحب بالإجراءات الاحترازية التي تتخذها الدول والحكومات بشرط أن تكون مدروسة من قبل المتخصصين وتستند إلى حقائق علمية وتكون مسبوقة بحملة تثقيفية واسعة لتجنب الخوف والهلع لدى المستهلكين بدون مبرر فإننا لطالما نادينا بأن صناعة الدواجن والثروة الحيوانية عامة لاينطبق عليها جميع سياسات الاقتصاد الحر والسوق المفتوح ولكن لابد للحكومات أن تتولى بنفسها الإشراف عليها إلى جانب القطاع الخاص لأنها تمس الأمن الغذائي والأمن الصحي والبيئي والاجتماعي للدول وهي الآن جزء أساسي في اقتصاد الدول وعلاقاتها التجارية والاقتصادية وحتى السياسية والثقافية.
عاشرا: يجب أن ننتبه لأصحاب المصالح الخاصة الذين لايفوتون أي فرصة لتوظيف الأحداث ويتاجرون بأقوات ومشاعر الناس ويوظفون هموم البشر لتحقيق مآربهم سواء تحققت نظرية المؤامرة أو حتى بدون مؤامرة ولكن نتيجة الأقدار العادية.
أحد عشر: الاعتدال في كل شيء هو أساس النجاح والتقدم والرقي أما الإفراط والتفريط فقد كانا دائما سبب الكوارث والدمار والتطرف. لذا يجب على المتخصصين جميعا وعلى الإعلاميين خاصة أن تكون لهم خطط مدروسة للتعامل مع الأحداث ولامانع من عقد مؤتمر للمتخصصين في بداية كل حدث لوضع خطة مدروسة للتعامل معه وتجنب سياسة رد الفعل العشوائية غير المدروسة التي تضر بمصلحة أمتنا. ثم نفيق بعد الخراب وارتكاب الأخطاء لينقد بعضنا بعضا بعد فوات الأوان.